مسخ الحقيقة: ليس إفريقياً .. بل نوبياً
ربما يشترك النوبيون –أيضاً- في التقييم السلبي لكل حاملي البشرة القاتمة عامة بين المصريين ، فأثناء الاحتفال النصف شهري بجماعة الفوديكا شاهدت في تلك السنة الروائي يحي مختار الذي أهداني روايته الصادرة أخيراً "جبال الكُحل" 2001 ، وقد اخبرني عن الحافز الذى دفعه لكتابة هذه الرواية، وغيرها من النصوص وثيق الصلة بالارتحال وحياة الأجداد النوبيين على مقربة من سد أسوان وذلك من أجل مستقبل الأجيال التالية عليهم جيل بعد جيل، لكن مُقام النوبيين الكبار لم يعد له وجود.
رواية مختار"جبال الكُحل" تنتقد تصرّف الحكومة تجاه انتقال النوبيين من قراهم متضمنة الصورة المتخيلة للروائي حيث تجسد رؤية النوبيين في الصحف الرسمية، تصور الرواية الترحال من خلال شخصية المدرس النبوي"على محمود" عبر المفكرة التى يدون فيها فترة تعليمه في القاهرة وقبلها سنوات المرحلة الثانوية التى قضاها في المدرسة الحكومية "عنيبة" في النوبة القديمة.
أعطاه عمه كُتيب يدعو الى الانتقال من منطقة الإقامة في النوبة ، وقد نُشر قبل الرحيل منذ أكتوبر 1963 حتى يونيو 1964 بوزارة الشؤون الاجتماعية المصرية ضم غلاف الكتاب صورة لثلاثة وجوه لرجل وامرأة وطفل صُوّرت من الجنب (بروفيل) وهم يرتدون الملابس النوبية كرؤية رمزية للواقع الاشتراكى الحديث، أصدرت إدارة العلاقات العامة بوزارة الشؤون الاجتماعية الكُتيب الذى الكتسى بثلاثة ألوان الأسود والأسمر والأخضر الذى يحمل رمز الصقر والاتنحاد الاشتراكي، كُتب العنوان بنمط الأحرف الكبيرة:
(آن الأوان للذهاب الى النوبة الجديدة)
قرأت:"حان وقت العمل الثورى" تحت العنوان كانت صورة رجل وامرأة وابنهما رمزاً للأسرة النوبية ، ثلاثتهم كانوا يبتسمون، لكن وجوههم لم تكن نوبية ، بل كانت قسماتهم إفريقية مثل الزنوج تماماً، شفاة سميكة جدا وأنوف مُسطّحة، بقية الغلاف كان عبارة عن أشكال لمجموعة من البيوت النوبية الفقيرة الموجودة في كوم أمبو. جمعت الصورة مثال للقرية النوبية الجديدة التى تضم المدرسة-المصنع-المسجد،المستشفى ويطوّق كل ذلك حقل أخضر.(مختار 2001 ص 65 )
صدر الكتيب الحكومي لتعبئة النوبيين معنوياً للتطلع إلى الحياة الفارهة عبر الانتقال ضمن إطار اجتماعي للرحيل طبقاً لمحددات ثورة جمال عبد الناصر الجديدة، انتقد يحي مختار الوجوه الثلاثة على غلاف الكتاب دلالة على الإنسان الزنجي أو معالم الأفارقة السود (شفاة عريضة-أنوف واسعة-لون البشرة الأسود) بما يُفهم بأنهم نوبيون بينما هم ليسوا كذلك.
طبقاً لرؤية مختار تمثل هذه الصور قدر من جهل السلطات الحكومية المصرية التى أصدرت ومن ثم نفذت النقل الذي يعتبر النوبيين أفارقة بدائيين ، وبذلك يكونوا غرباء اجتماعيا وغير مصريين بطريقة ما.
في غرب أسوان حدث مع أسرة أخرى عندما كانت نورا أولى الحفيدات تبلغ من العمر ستة أشهر سمعت نشيجها "الطفلة الرضيعة سوداء" تؤكد ذلك كلمات امرأة كانت في منزل نورا في ذلك الوقت .. أشارت "حسناً.. ماذا نتوقع" تنظر الى أبويها ثم تعاود النظر الى نورا الابنة ذات البشرة الأكثر سوادً ، وكذلك الى صهرها . تقدير نورا كونها الحفيدة الحبيبة أولاً أما التقييم السلبي للون بشرتها الأسمر جدا الذى يطلق عليه(الأسود)بدلاً من الأسمر وذلك كنوع من التقليل الجوهري لجاذبية اللون للمرأة أكثر من الرجل ، مما يُعرّض البنت لمصير يعتبر فرص زواجها غير إيجابية ، مما يُلزم بشعور بالرثاء لنورا. حدث أيضا في المتحف النوبي أن اعترضت امرأة من غرب أسوان على التجسيد غير الدقيق للنوبيين على أنهم "زنوج" او "أفارقة" .
تحددت القرية التى تقع عرض النيل بالقرب من محطة القطار في مدينة أسوان فوق كل السدود ، لذا لم يتم نقلها سالفاً مع من انتقلت من القرى، ولم أقابل امرأة في غرب أسوان تعرف يحيى مختار أو يمكن للقلائل منهن ان يجدن القدرة او الوقت لقراءة روايته، هذا إذا عرفن كيف يقرأن؟ لكن الكل سمع عن متحف النوبة الذى بُنى فوق الهضبة كجزيرة عبر النيل في أسوان وكذلك زاروه. بنى المتحف بالتعاون بين الوينسكون والمجلس الأعلى المصري للآثار منذ عشر سنوات حيث تم افتتاحه أخر عام 1997في المتحف المصري تستقر آثار كثيرة من النوبة كما يظهر الوصف الاثنوجرافي للحياة النوبية القديمة، كتجمع النوبيين الذى يضم الأعضاء في جمعية التراث النوبي بالقاهرة، مما شكّل قدراً من الاستشارة للمسؤولين في الحكومة عند التخطيط لظهور المتحف الاثنولوجي.
قال أحد أعضاء جمعية التراث النوبي في مقابلة لى معه في 2001 "نحن مجرد متراس، لا تصدقي ما يُقال" بما يُظهر إحباطه واشمئزازه مما حدث من الدولة واليونسكو.
أكثر النساء المتزوجات التى تعرفت بهن كن ربات منازل لم يشتغلن خارج المنزل، مثل نورا وابنة عمها زوبة اللتين استضافتا مجموعة كبيرة من السائحين لزيارة القرية كجزء مستقطع من يوم الرحلة لأسوان. أثناء زيارة منطقة غرب أسوان عام 1998 بعد افتتاح المتحف ، شهدت إحدى النساء شَجب زوبة للعرض الاثنوجرافي لوضع إحدى النسوة العجائز قائلة:" إن النساء النوبيات كبيرات السن كن أجمل من تلك المعروضات". كما قالت بان القائمون على المتحف يصممون التماثيل أكثر سواداً وقبحاً لأنهم يعتقدون أن النوبيين سود الى جانب ترافق ذلك مع القبح، نماذج تماثيل الشمع المعروضة استندت على صور النوبيين العامة في أسوان لكن صناعتها تمت في شركة في إنجلترا.
ثم تمت كسوتها بوساطة المسؤولين عن المتحف. هذه المرأة وأخريات ممن يعشن في أسوان أو غربها حضرن لمشاهدة 21 مليون من التحف لتركيز الرؤية الفعلية الجديدة لتاريخ النوبة وثقافتها . الذى غاب إثر استفحال الكثافة السكانية في مصر.
عامة، اعتبروا تصوير النوبيين بدرجة سواد أشد للبشرة إهانة وهو ما يعزز التصورات المصرية حول أن النوبيين أفارقة وليسوا مصريين، بينما بعض النساء في غرب أسوان انتقدن ظهور العارضات فى المتحف لمجموعة (سيرينا) من النساء الشابات النوبيات. زرن المتحف وأعجبن كثيراً بالطفرة الحضارية التى انتجها البحث الحفري منذ ما قبل التاريخ حتى العصر المسيحي المبكر. كما قدّروا التوازي بين تاريخ مصر الفرعونية بما يُحدثه من ألفة مع الزوار الذين لا يحملون سوى الكتب التعليمية النظرية . وتاريخ النوبة الذى تجسده العصور القديمة.
بعد عيد الأضحى أثناء زيارة للمتحف في مارس 2001 كانت بعض العائلات قد أتت من قرية نوبية فى منطقة "كلابشة" وظهر أن الإفادة من المتحف إنه يعرفنا بالتاريخ الاجتماعي الذي يحدد موقع النوبة من الناحية التاريخية ضمن نطاق التاريخ المصري الذي يساعد على تمييز النوبيين عن الأفارقة". إحدى النساء الشابات قالت:"بعض الناس باستثناء من ينتسبون الى أسوان.. أولئك من غير النوبيين عامة ، بينما بقية المصريين يتعاملون معنا كأننا من إفريقيا، ولسنا مصريين مثلهم، شعروا بأن المتحف قد يُعرّف بالنوبيين على أنهم من أصول مصرية، وتلك الحضارة قد بدأت من هنا، من الحضارة النوبية".
قدّرت هؤلاء البنات مزاعم المتحف بأن النوبيين حالياً ودائماً كانوا مصريين بما يحقق بقوة التصورات السلبية بأن النوبيين أفارقة غير متحضرين بهذا المعنى منح المتحف الهوية المتساوية للمصريين والنوبيين في مواجهة المزاعم الإفريقية عامة.
ولمزيد من التعريف بالقياس الاجتماعي لعدم التمدن النوبي تتصل صفة "الخادم" أو "البربري" بالمهن التى شغلها أباء النوبيين وأجدادهم بدلاً من نظر المجتمع الى إنجاز الذى حققه خلفاءهم، كما أن التصورات التى قرّت في الذاكرة الاجتماعية عنهم أنهم في الماضي كانوا في منزلة أدنى، لكن آخرون يؤكدون أن كل شخص يذكر كلمة "بربري" بشكل غير متعمّد حتى لا تكون إحالة عليهم.
في ربيع 2002 زارت زينة وأمها وشقيقتها القاهرة من أجل المتابعة الطبية، حاولت إقناع الأم بقبول دعوتي لهن لأن يبقين في ضيافتي بدلا من الفندق ، بينما شددت الأم على رفضها وتمسكت به ، ثم شكرتني كثيراً ثم قالت:" أنا عنيدة، امرأة بربرية، لا يمكن إثنائي عن رأيي" مستخدمة تعبير "معقدة" إشارة الى نفسها.
كلام عائلتي كل من زينة ونورا في غرب أسوان، والسيد علي ويحيي مختار وحجاج أدول في القاهرة وكل التجارب المعقدة التي تخلط بين لون البشرة القاتم والانتقال الاجتماعي والمكاني من إفريقيا إلى مصر ومن قرى الجنوب إلى مدن الشمال يجابهه تكرار التأكيد على عكس ذلك.
على الرغم من تفحّصي للنقاش حول وسائل الإعلام التي لا تعتبر أن لون البشرة ليس وحده فحسب مُقيماً للجمال ذلك من ناحية الفتنة والانجذاب تجاه شخص أسمر(فيرينا ورشدي 1991-200) كان اللون أيضاً مصدر أساسي كعلامة على طبقة النوبيين الحالية والسالفة والمفترضة، وكذلك كان مصدراً لشغل الأعمال الخدمية . أحياناً يمكن أن يحدد الأصول الإفريقية للشخص سابقاً أو حالياً سواء كان من أهل العبيد السود على مدار التاريخ أم كان من الصحراء الكُبرى الإفريقية المعاصرة وليست أصوله من مصر أو من وادي النيل.
إن الخلط بين اللون والعبودية والسُلالة الإفريقية المفترضة تضع –في كفة واحدة- الكُنية النوبية والآخرين, كما تتم المناقشات والخبرات بشكل مختلف حول تلك العائلات اللاتي هاجرت من النوبة إلى القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين . آنذاك لم تكن لترتحل تلك القرى أبداً، والأجيال النوبية المتحضرة الصغيرة التي نشأت في المدن ربما لم تكن لتعرف النوبيين الأول أو اللغة النوبية.
الهوامش
[1] أستاذ دراسات الانثربولوجيا والسوسيوثقافية بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة.
[2] ذكر لى الكاتب حجاج أدول أن اسم الرجل النوبي المُعمِّر الذى جمعهم للصلح هو محمد سليمان جد كاب وهو من أهم الحاملين للتراث النوبي والمحافظين عليه. (المترجمة)
[3] الروائيون النوبيون كانوا حجاج أدول وإدريس علي ويحي مختار وخليل كلفت كما ذكر حجاج أدول في مقاله الذي رد به على خيري شلبي. (المترجمة)
[4] نُشر رد الروائى النوبي حجاج أدول في مقال تحت عنوان رسالة حب الى الأديب الكبير"خيري آشري.. ماس-كاجنا" باللغة النوبية بمعنى "خيري الجميل..لعلك بخير" في جريدة الأسبوع العدد 249 في 26 نوفمبر. (المترجمة)
[5] استخدم مصطلح"اثنوجرافيا" أو البحث الميداني في فرنسا حتى الحرب العالمية الثانية إشارة الى واحد من العلوم الإنسانية الذى يميل-حصريا- الى دراسة المجتمعات البدائية، وعلى الانثربولوجيا مهمة إجراء التحليل المقارن للمجتمعات والثقافات. للمزيد راجع معجم الاثنولوجيا والانثربولوجيا-المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر-بيروت-ط1-2006-ص24. (المترجمة)
[6] Gender بمعنى جنس والجذر الثلاثي لفعل جَنس له دلالات متنوعة ويُشتق منه عدد من المعاني التى استقرت دلالاتها التى ترتبط بمفاهيم عرقية (كألاجناس البشرية) ومنطقية كالجنس الأعم من النوع، وغريزية كالجنس الشبق، وبلاغية كالأجناش الشعرية، لكن مصطلح الجنوسة يؤدى معنى التشكيل الثقافي والاجتماعي للذكورة والأنوثة. راجع مجلة ألف الصادرة عن الجامعة الأمريكية العدد 19 سنة 1999 . (المترجمة)
[7] لعلها تقصد جامع ودار مناسبات طلعت القواس اللصيق بالجمعية أو جامع كخية بشارع قولة امتداد التحرير بمنطقة عابدين . (المترجمة)
[8] كتب خيري شلبي عن شخصية داريا سكينة وهى أهم شخصيا رواية"الشمندورة" للكاتب النوبي خليل قاسم . (المترجمة)
[9] كتب سلامة أحمد سلامة في مقاله اليومي بجريدة الأهرام تحت عنوان"حق لأبناء النوبة" قال: إنني أضم صوتي الى أصوات أبناء النوبة في ضرورة إعطاء الأولوية لأبنائهم؛ إذ لا تنمية حقيقية بغير حضاري وتراثي من أصحابه الأصليين. (المترجمة)
[10] يطلق عليه مقهى وادى النيل نظراً لمن يضمهم من السودانيين والمصريين وربما يكون بالفعل وجود النوبيين به أطلق العنان لمن سموه كذلك. (المترجمة)
[11] عامل بالأجرة اليومية. (المترجمة)
[12] يقصد بكلمة outlawed الخارج عن القانون أو سقوط الحق المدني في قضية ما لكنها أتت في السياق بمعنى انتهاء فعل ما (المترجمة)
[13] أسوة بمن لا يزالوا يسردون سيرة أبى زيد الهلالي في بعض المقاهي. (المترجمة)
[14] تقع في مدينة أسيوط ولم يذكرها النص صراحة ، بل ذكر أنها فى منطقة جنوبية على مقربة من المدينة الإقليمية أسوان. (المترجمة)
مراجع الموضوع
1. فيرنيا،روبرت أ- جورج جيستر 1973 "النوبيون في مصر: تعايش البشري"- اوسترن- منشورات جامعة تكساس,
2. فيرنيا،روبرت أ- عاليا رشدي.1991"النوبيون في مصر المعاصرة". النوبيون في المصريات، تحرير اليزابيث ورنوك و روبيرت أ فيرنيا 183-202.
3. جيزر، روبرت 1986" النوبيون المصريون دراسة في التكافل الاجتماعي القاهرة- إصدارات قسم النشر بالجامعة الأمريكية
4. حمدي، السيد 1994 "النوبة الجديدة: دراسة انثربولوجيا في المجتمع المصري" القاهرة عين للعلوم الإنسانية والدراسات الاجتماعية.
5. الكتشا، سميحة.1978 تغيرات مراسم الزواج النوبي في حياة الاحتفائية النوبية : دراسة في زمنية الإسلام والتغير الثقافي"- تحرير جون. ج. كينيدي، 171-202، بيركلي جامعة كاليفورنيا.
6. كينيدي. ج. جون.1977 النضال من أجل تغير الطائفة النوبية" الفردية في المجتمع التاريخ"-باللو التو: مايفيلد.
7. 1978، المعالجة النفسية لمراسم الزار" في الاحتفالات النوبية دراسات في دراسة في زمن الإسلام والتغير الثقافي" تحرير جون. ج. كينيدي، 23-203، بيركلي جامعة كاليفورنيا.
8. مختار،يحي 2001 "جبال الكُحل –رواية من النوبة- القاهرة دار الهلال.
9. تعليم اللهجة النوبية-القاهرة- مركز الدرسات والوثائق النوبية 1999.
10. أدول، حجاج "حول مصطلح الأدب النوبي" مجلة القاهرة-نوفمبر.
11. 2001 رسالة حب الى الأديب الكبير خيري شلبي- جريدة الأسبوع- ديسمبر.
12. بيسشكا، رومان 1996 "النوبيون في مصر والسودان" الإكراهات واستراتيجيات الحجارة"،ساربوركن، المانيا، فيرلدج فوج انتوكلنجز-بولتيك-سيبروكين.
13. علية، رشدي 1991- النوبيون ولغة النوبة في مصر المعاصرة: دراسة في الحالة الثقافية والاتصال اللغوي- ليدن- بيرل.
14. صالح، محيي الدين 2000 "من عالم النوبة في القرن العشرين" الجزء الأول- القاهرة- النسر الذهبي للطباعة.
15. والز، تيرينز 1978، "التجارة بين مصر وبلاد السودان(1700-1820) القاهرة – المعهد الفرنسي للحفريات الشرقية .
(شكر خاص من اسره المنتدي للدكتوره عفاف عبد المعطي المترجمه لهذا الكتاب)
ربما يشترك النوبيون –أيضاً- في التقييم السلبي لكل حاملي البشرة القاتمة عامة بين المصريين ، فأثناء الاحتفال النصف شهري بجماعة الفوديكا شاهدت في تلك السنة الروائي يحي مختار الذي أهداني روايته الصادرة أخيراً "جبال الكُحل" 2001 ، وقد اخبرني عن الحافز الذى دفعه لكتابة هذه الرواية، وغيرها من النصوص وثيق الصلة بالارتحال وحياة الأجداد النوبيين على مقربة من سد أسوان وذلك من أجل مستقبل الأجيال التالية عليهم جيل بعد جيل، لكن مُقام النوبيين الكبار لم يعد له وجود.
رواية مختار"جبال الكُحل" تنتقد تصرّف الحكومة تجاه انتقال النوبيين من قراهم متضمنة الصورة المتخيلة للروائي حيث تجسد رؤية النوبيين في الصحف الرسمية، تصور الرواية الترحال من خلال شخصية المدرس النبوي"على محمود" عبر المفكرة التى يدون فيها فترة تعليمه في القاهرة وقبلها سنوات المرحلة الثانوية التى قضاها في المدرسة الحكومية "عنيبة" في النوبة القديمة.
أعطاه عمه كُتيب يدعو الى الانتقال من منطقة الإقامة في النوبة ، وقد نُشر قبل الرحيل منذ أكتوبر 1963 حتى يونيو 1964 بوزارة الشؤون الاجتماعية المصرية ضم غلاف الكتاب صورة لثلاثة وجوه لرجل وامرأة وطفل صُوّرت من الجنب (بروفيل) وهم يرتدون الملابس النوبية كرؤية رمزية للواقع الاشتراكى الحديث، أصدرت إدارة العلاقات العامة بوزارة الشؤون الاجتماعية الكُتيب الذى الكتسى بثلاثة ألوان الأسود والأسمر والأخضر الذى يحمل رمز الصقر والاتنحاد الاشتراكي، كُتب العنوان بنمط الأحرف الكبيرة:
(آن الأوان للذهاب الى النوبة الجديدة)
قرأت:"حان وقت العمل الثورى" تحت العنوان كانت صورة رجل وامرأة وابنهما رمزاً للأسرة النوبية ، ثلاثتهم كانوا يبتسمون، لكن وجوههم لم تكن نوبية ، بل كانت قسماتهم إفريقية مثل الزنوج تماماً، شفاة سميكة جدا وأنوف مُسطّحة، بقية الغلاف كان عبارة عن أشكال لمجموعة من البيوت النوبية الفقيرة الموجودة في كوم أمبو. جمعت الصورة مثال للقرية النوبية الجديدة التى تضم المدرسة-المصنع-المسجد،المستشفى ويطوّق كل ذلك حقل أخضر.(مختار 2001 ص 65 )
صدر الكتيب الحكومي لتعبئة النوبيين معنوياً للتطلع إلى الحياة الفارهة عبر الانتقال ضمن إطار اجتماعي للرحيل طبقاً لمحددات ثورة جمال عبد الناصر الجديدة، انتقد يحي مختار الوجوه الثلاثة على غلاف الكتاب دلالة على الإنسان الزنجي أو معالم الأفارقة السود (شفاة عريضة-أنوف واسعة-لون البشرة الأسود) بما يُفهم بأنهم نوبيون بينما هم ليسوا كذلك.
طبقاً لرؤية مختار تمثل هذه الصور قدر من جهل السلطات الحكومية المصرية التى أصدرت ومن ثم نفذت النقل الذي يعتبر النوبيين أفارقة بدائيين ، وبذلك يكونوا غرباء اجتماعيا وغير مصريين بطريقة ما.
في غرب أسوان حدث مع أسرة أخرى عندما كانت نورا أولى الحفيدات تبلغ من العمر ستة أشهر سمعت نشيجها "الطفلة الرضيعة سوداء" تؤكد ذلك كلمات امرأة كانت في منزل نورا في ذلك الوقت .. أشارت "حسناً.. ماذا نتوقع" تنظر الى أبويها ثم تعاود النظر الى نورا الابنة ذات البشرة الأكثر سوادً ، وكذلك الى صهرها . تقدير نورا كونها الحفيدة الحبيبة أولاً أما التقييم السلبي للون بشرتها الأسمر جدا الذى يطلق عليه(الأسود)بدلاً من الأسمر وذلك كنوع من التقليل الجوهري لجاذبية اللون للمرأة أكثر من الرجل ، مما يُعرّض البنت لمصير يعتبر فرص زواجها غير إيجابية ، مما يُلزم بشعور بالرثاء لنورا. حدث أيضا في المتحف النوبي أن اعترضت امرأة من غرب أسوان على التجسيد غير الدقيق للنوبيين على أنهم "زنوج" او "أفارقة" .
تحددت القرية التى تقع عرض النيل بالقرب من محطة القطار في مدينة أسوان فوق كل السدود ، لذا لم يتم نقلها سالفاً مع من انتقلت من القرى، ولم أقابل امرأة في غرب أسوان تعرف يحيى مختار أو يمكن للقلائل منهن ان يجدن القدرة او الوقت لقراءة روايته، هذا إذا عرفن كيف يقرأن؟ لكن الكل سمع عن متحف النوبة الذى بُنى فوق الهضبة كجزيرة عبر النيل في أسوان وكذلك زاروه. بنى المتحف بالتعاون بين الوينسكون والمجلس الأعلى المصري للآثار منذ عشر سنوات حيث تم افتتاحه أخر عام 1997في المتحف المصري تستقر آثار كثيرة من النوبة كما يظهر الوصف الاثنوجرافي للحياة النوبية القديمة، كتجمع النوبيين الذى يضم الأعضاء في جمعية التراث النوبي بالقاهرة، مما شكّل قدراً من الاستشارة للمسؤولين في الحكومة عند التخطيط لظهور المتحف الاثنولوجي.
قال أحد أعضاء جمعية التراث النوبي في مقابلة لى معه في 2001 "نحن مجرد متراس، لا تصدقي ما يُقال" بما يُظهر إحباطه واشمئزازه مما حدث من الدولة واليونسكو.
أكثر النساء المتزوجات التى تعرفت بهن كن ربات منازل لم يشتغلن خارج المنزل، مثل نورا وابنة عمها زوبة اللتين استضافتا مجموعة كبيرة من السائحين لزيارة القرية كجزء مستقطع من يوم الرحلة لأسوان. أثناء زيارة منطقة غرب أسوان عام 1998 بعد افتتاح المتحف ، شهدت إحدى النساء شَجب زوبة للعرض الاثنوجرافي لوضع إحدى النسوة العجائز قائلة:" إن النساء النوبيات كبيرات السن كن أجمل من تلك المعروضات". كما قالت بان القائمون على المتحف يصممون التماثيل أكثر سواداً وقبحاً لأنهم يعتقدون أن النوبيين سود الى جانب ترافق ذلك مع القبح، نماذج تماثيل الشمع المعروضة استندت على صور النوبيين العامة في أسوان لكن صناعتها تمت في شركة في إنجلترا.
ثم تمت كسوتها بوساطة المسؤولين عن المتحف. هذه المرأة وأخريات ممن يعشن في أسوان أو غربها حضرن لمشاهدة 21 مليون من التحف لتركيز الرؤية الفعلية الجديدة لتاريخ النوبة وثقافتها . الذى غاب إثر استفحال الكثافة السكانية في مصر.
عامة، اعتبروا تصوير النوبيين بدرجة سواد أشد للبشرة إهانة وهو ما يعزز التصورات المصرية حول أن النوبيين أفارقة وليسوا مصريين، بينما بعض النساء في غرب أسوان انتقدن ظهور العارضات فى المتحف لمجموعة (سيرينا) من النساء الشابات النوبيات. زرن المتحف وأعجبن كثيراً بالطفرة الحضارية التى انتجها البحث الحفري منذ ما قبل التاريخ حتى العصر المسيحي المبكر. كما قدّروا التوازي بين تاريخ مصر الفرعونية بما يُحدثه من ألفة مع الزوار الذين لا يحملون سوى الكتب التعليمية النظرية . وتاريخ النوبة الذى تجسده العصور القديمة.
بعد عيد الأضحى أثناء زيارة للمتحف في مارس 2001 كانت بعض العائلات قد أتت من قرية نوبية فى منطقة "كلابشة" وظهر أن الإفادة من المتحف إنه يعرفنا بالتاريخ الاجتماعي الذي يحدد موقع النوبة من الناحية التاريخية ضمن نطاق التاريخ المصري الذي يساعد على تمييز النوبيين عن الأفارقة". إحدى النساء الشابات قالت:"بعض الناس باستثناء من ينتسبون الى أسوان.. أولئك من غير النوبيين عامة ، بينما بقية المصريين يتعاملون معنا كأننا من إفريقيا، ولسنا مصريين مثلهم، شعروا بأن المتحف قد يُعرّف بالنوبيين على أنهم من أصول مصرية، وتلك الحضارة قد بدأت من هنا، من الحضارة النوبية".
قدّرت هؤلاء البنات مزاعم المتحف بأن النوبيين حالياً ودائماً كانوا مصريين بما يحقق بقوة التصورات السلبية بأن النوبيين أفارقة غير متحضرين بهذا المعنى منح المتحف الهوية المتساوية للمصريين والنوبيين في مواجهة المزاعم الإفريقية عامة.
ولمزيد من التعريف بالقياس الاجتماعي لعدم التمدن النوبي تتصل صفة "الخادم" أو "البربري" بالمهن التى شغلها أباء النوبيين وأجدادهم بدلاً من نظر المجتمع الى إنجاز الذى حققه خلفاءهم، كما أن التصورات التى قرّت في الذاكرة الاجتماعية عنهم أنهم في الماضي كانوا في منزلة أدنى، لكن آخرون يؤكدون أن كل شخص يذكر كلمة "بربري" بشكل غير متعمّد حتى لا تكون إحالة عليهم.
في ربيع 2002 زارت زينة وأمها وشقيقتها القاهرة من أجل المتابعة الطبية، حاولت إقناع الأم بقبول دعوتي لهن لأن يبقين في ضيافتي بدلا من الفندق ، بينما شددت الأم على رفضها وتمسكت به ، ثم شكرتني كثيراً ثم قالت:" أنا عنيدة، امرأة بربرية، لا يمكن إثنائي عن رأيي" مستخدمة تعبير "معقدة" إشارة الى نفسها.
كلام عائلتي كل من زينة ونورا في غرب أسوان، والسيد علي ويحيي مختار وحجاج أدول في القاهرة وكل التجارب المعقدة التي تخلط بين لون البشرة القاتم والانتقال الاجتماعي والمكاني من إفريقيا إلى مصر ومن قرى الجنوب إلى مدن الشمال يجابهه تكرار التأكيد على عكس ذلك.
على الرغم من تفحّصي للنقاش حول وسائل الإعلام التي لا تعتبر أن لون البشرة ليس وحده فحسب مُقيماً للجمال ذلك من ناحية الفتنة والانجذاب تجاه شخص أسمر(فيرينا ورشدي 1991-200) كان اللون أيضاً مصدر أساسي كعلامة على طبقة النوبيين الحالية والسالفة والمفترضة، وكذلك كان مصدراً لشغل الأعمال الخدمية . أحياناً يمكن أن يحدد الأصول الإفريقية للشخص سابقاً أو حالياً سواء كان من أهل العبيد السود على مدار التاريخ أم كان من الصحراء الكُبرى الإفريقية المعاصرة وليست أصوله من مصر أو من وادي النيل.
إن الخلط بين اللون والعبودية والسُلالة الإفريقية المفترضة تضع –في كفة واحدة- الكُنية النوبية والآخرين, كما تتم المناقشات والخبرات بشكل مختلف حول تلك العائلات اللاتي هاجرت من النوبة إلى القاهرة في النصف الأول من القرن العشرين . آنذاك لم تكن لترتحل تلك القرى أبداً، والأجيال النوبية المتحضرة الصغيرة التي نشأت في المدن ربما لم تكن لتعرف النوبيين الأول أو اللغة النوبية.
الهوامش
[1] أستاذ دراسات الانثربولوجيا والسوسيوثقافية بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كاليفورنيا بالولايات المتحدة.
[2] ذكر لى الكاتب حجاج أدول أن اسم الرجل النوبي المُعمِّر الذى جمعهم للصلح هو محمد سليمان جد كاب وهو من أهم الحاملين للتراث النوبي والمحافظين عليه. (المترجمة)
[3] الروائيون النوبيون كانوا حجاج أدول وإدريس علي ويحي مختار وخليل كلفت كما ذكر حجاج أدول في مقاله الذي رد به على خيري شلبي. (المترجمة)
[4] نُشر رد الروائى النوبي حجاج أدول في مقال تحت عنوان رسالة حب الى الأديب الكبير"خيري آشري.. ماس-كاجنا" باللغة النوبية بمعنى "خيري الجميل..لعلك بخير" في جريدة الأسبوع العدد 249 في 26 نوفمبر. (المترجمة)
[5] استخدم مصطلح"اثنوجرافيا" أو البحث الميداني في فرنسا حتى الحرب العالمية الثانية إشارة الى واحد من العلوم الإنسانية الذى يميل-حصريا- الى دراسة المجتمعات البدائية، وعلى الانثربولوجيا مهمة إجراء التحليل المقارن للمجتمعات والثقافات. للمزيد راجع معجم الاثنولوجيا والانثربولوجيا-المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر-بيروت-ط1-2006-ص24. (المترجمة)
[6] Gender بمعنى جنس والجذر الثلاثي لفعل جَنس له دلالات متنوعة ويُشتق منه عدد من المعاني التى استقرت دلالاتها التى ترتبط بمفاهيم عرقية (كألاجناس البشرية) ومنطقية كالجنس الأعم من النوع، وغريزية كالجنس الشبق، وبلاغية كالأجناش الشعرية، لكن مصطلح الجنوسة يؤدى معنى التشكيل الثقافي والاجتماعي للذكورة والأنوثة. راجع مجلة ألف الصادرة عن الجامعة الأمريكية العدد 19 سنة 1999 . (المترجمة)
[7] لعلها تقصد جامع ودار مناسبات طلعت القواس اللصيق بالجمعية أو جامع كخية بشارع قولة امتداد التحرير بمنطقة عابدين . (المترجمة)
[8] كتب خيري شلبي عن شخصية داريا سكينة وهى أهم شخصيا رواية"الشمندورة" للكاتب النوبي خليل قاسم . (المترجمة)
[9] كتب سلامة أحمد سلامة في مقاله اليومي بجريدة الأهرام تحت عنوان"حق لأبناء النوبة" قال: إنني أضم صوتي الى أصوات أبناء النوبة في ضرورة إعطاء الأولوية لأبنائهم؛ إذ لا تنمية حقيقية بغير حضاري وتراثي من أصحابه الأصليين. (المترجمة)
[10] يطلق عليه مقهى وادى النيل نظراً لمن يضمهم من السودانيين والمصريين وربما يكون بالفعل وجود النوبيين به أطلق العنان لمن سموه كذلك. (المترجمة)
[11] عامل بالأجرة اليومية. (المترجمة)
[12] يقصد بكلمة outlawed الخارج عن القانون أو سقوط الحق المدني في قضية ما لكنها أتت في السياق بمعنى انتهاء فعل ما (المترجمة)
[13] أسوة بمن لا يزالوا يسردون سيرة أبى زيد الهلالي في بعض المقاهي. (المترجمة)
[14] تقع في مدينة أسيوط ولم يذكرها النص صراحة ، بل ذكر أنها فى منطقة جنوبية على مقربة من المدينة الإقليمية أسوان. (المترجمة)
مراجع الموضوع
1. فيرنيا،روبرت أ- جورج جيستر 1973 "النوبيون في مصر: تعايش البشري"- اوسترن- منشورات جامعة تكساس,
2. فيرنيا،روبرت أ- عاليا رشدي.1991"النوبيون في مصر المعاصرة". النوبيون في المصريات، تحرير اليزابيث ورنوك و روبيرت أ فيرنيا 183-202.
3. جيزر، روبرت 1986" النوبيون المصريون دراسة في التكافل الاجتماعي القاهرة- إصدارات قسم النشر بالجامعة الأمريكية
4. حمدي، السيد 1994 "النوبة الجديدة: دراسة انثربولوجيا في المجتمع المصري" القاهرة عين للعلوم الإنسانية والدراسات الاجتماعية.
5. الكتشا، سميحة.1978 تغيرات مراسم الزواج النوبي في حياة الاحتفائية النوبية : دراسة في زمنية الإسلام والتغير الثقافي"- تحرير جون. ج. كينيدي، 171-202، بيركلي جامعة كاليفورنيا.
6. كينيدي. ج. جون.1977 النضال من أجل تغير الطائفة النوبية" الفردية في المجتمع التاريخ"-باللو التو: مايفيلد.
7. 1978، المعالجة النفسية لمراسم الزار" في الاحتفالات النوبية دراسات في دراسة في زمن الإسلام والتغير الثقافي" تحرير جون. ج. كينيدي، 23-203، بيركلي جامعة كاليفورنيا.
8. مختار،يحي 2001 "جبال الكُحل –رواية من النوبة- القاهرة دار الهلال.
9. تعليم اللهجة النوبية-القاهرة- مركز الدرسات والوثائق النوبية 1999.
10. أدول، حجاج "حول مصطلح الأدب النوبي" مجلة القاهرة-نوفمبر.
11. 2001 رسالة حب الى الأديب الكبير خيري شلبي- جريدة الأسبوع- ديسمبر.
12. بيسشكا، رومان 1996 "النوبيون في مصر والسودان" الإكراهات واستراتيجيات الحجارة"،ساربوركن، المانيا، فيرلدج فوج انتوكلنجز-بولتيك-سيبروكين.
13. علية، رشدي 1991- النوبيون ولغة النوبة في مصر المعاصرة: دراسة في الحالة الثقافية والاتصال اللغوي- ليدن- بيرل.
14. صالح، محيي الدين 2000 "من عالم النوبة في القرن العشرين" الجزء الأول- القاهرة- النسر الذهبي للطباعة.
15. والز، تيرينز 1978، "التجارة بين مصر وبلاد السودان(1700-1820) القاهرة – المعهد الفرنسي للحفريات الشرقية .
(شكر خاص من اسره المنتدي للدكتوره عفاف عبد المعطي المترجمه لهذا الكتاب)