على ضفاف نهر النيل فى بلاد النوبة القديمة ورمالها الذهبية وبين شعاع شمسها وعبق العصارى المشرقة ولون سمائها وضياء قمرها وظلال النخيل وصوت السواقى وأنغامها ولمة الحوش ونبض القلوب الصافية والعفيفة والأليفة ولد الفنان الراحل المقيم حسن جزولى ونمت موهبته الفنية فى أحضان بلاد تنبت الفن والجمال. كان حسن عثمان جزولى من مواليد قرية قورتة، مركز عنيبة بالنوبة القديمة- محافظة أسوان.
تلقى حسن جزولى، مثل أبناء جيله، تعليمه فى خلاوى أهل قرية قورتة وكتاتيبها ودرس فى مدرسة قورتة الابتدائية حتى حصل على شهادتها، ثم علم نفسه بنفسه فيما بعد.
قضى حسن جزولى طفولته كأى طفل، يلعب ويمرح مع أقرانه فى ربوع النوبة القديمة. لكن ما ميّزه عن أولئك أنه كان يشعر برغبة قوية فى اعماقة تجذب كل حواسه نحو آلة ( الطار ) أو الدف وآلة الطنبور وتلك آلة تتكون من أجزاء بدائية ويُرسم عليها باليد رسومات جميلة وتشد عليها خمسة اسلاك معدنية، كما وهى آلة قربية من آلة العـــــود من حيث استخراج الأصوات بواســـطة النقر، وتسمى بآلة ( السمسمية ) فى مدن القناة مثل السويس وبورسعيد والأسماعلية. يقول، رحمه الله، فى أحد حواراته:-
( كنت أنصت لصوت الإيقاع المنبعث من تحت يد النساء فى الأفراح وجلسات السمر فى النوبة ) .
ارتبط الفنان حسن جزولى بالنيل فكان يخرج كل مساء من بيتهم فى قرية قورتة بالنوبة القديمة ويتخذ من شاطئ النيل مكاناً يمارس فيه وحدته المتأملة لكل الأشياء .
برزت موهبة الفنان حسن جزولى الفنية
منذ نعومة أظافره فكان يجلس مع اقرانه فى القرية يدندن على علب الصفيح الخالية بالغناء الشعبى والانشادات والمدائح الدينية المتعارف عليها فى ليالى الموالد. وفى تلك الفترة بدأ الناس يتداولون اسمه حيث كان يقيم حفلات
فى قرى النوبة ولم يعد يشغله شئ سوى الفن فمن أجل الفن ترك هو مقاعد الدراسة وبدأ ممارسة نشاطه الفنى كمطرب مبتدئ وغالبا ما كان يغنى بالمجان .
ثم جاء الى العاصمة القاهرة وهو يحمل رصيدا فنيا منه ماهو مبتدع ومنه ماهو موروث من مسقط رأسه وبدأ يبحث عن مصدر رزق فعمل فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة بعد أن هاجر من قريته الصغيرة فى النوبة .
إن البيئة التى نشأ فيها الفنان حسن جزولى كثيراً ما قد جمعت بين الثقافتين الدينية والفنية إذ لم تخلو ليالي أهلها من حلقات الإنشاد الدينى والمدائح النبوية. وكانت تلك البيئة ذات إسهام فى الإبداع الفنى،
فطبيعة النوبة الخلابة وامتداد أرضيها الخضراء على ضفتى النيل الخالد كانت هي الموطن الذي ولدت فيه موهبة وجمال أعماق الفنان الراحل حسن جزولى . لا غرو في ذلك فأهل النوبة لهم هيام بالأشجار وبنهر النيل الذى يلازمهم الحياة ليل نهار وقد غنى حسن جزولى للنيل والنخيل والرمال الذهبية، كما وغنّى للنوبة وللعودة الى ربوعها وللعشق البرئ للنوبية السمراء بنت النيل.
أتى حسن جزولى، الفنان الشاب الذى قدم من بلادِ النوبة، إلى الساحة الفنية وهو يحمل فى طياته بذرة ابداعية أصيلة لقحتها خواصه الشخصية المتفردة وتجربتة الأنسانية التى تهرول لاهثة على جسر أبداعى ممتد مابين الماضى والحاضر والمستقبل، شوقاً دفينا بداخله وحبّا ملتهبا يحترق له كل هشيم اللحظات التى تقف حائطا امام رؤيته الفنية فهو، منذ نشأته الأولى، كان يجادل الحرف والنغم معا....
ومن حسن حظ فناننا حسن جزولى انه عندما وصل الى القاهرة وجدها تعيش قمة ازدهارٍ فى الفن النوبى حيث تبلور فى ذلك الوقت فن الغناء الحديث واتضحت معالمه وأدى التنافس بين أقطابه ورواده الى ميلاد نهضة فنية كبيرة فكان الفنان الراحل عبد الله باطا وعلى كوبان وقتها قمتي الطرب، ينافسهما في ذلك الفنان عبد الواحد وغيره من الفنانين.
بدأ حسن جزولى مشواره الفنى فى عام 1952 مع الفنان والشاعر النوبى وتوأم روحه الأستاذ عبده مرغنى. وأول حفلاته وأول ظهور له كان بجمعية السيالة بحارة أبو السباع بمنطقة باب اللوق فى القاهرة. وكانت أول أغنية له بمصاحبة فرقة الفنان الراحـــــل على كوبــــــــان بمســـــــــــــرح وسينما اوديون وكانت الأغنيــــــة الكنزية ( أرمنا ووة سمرة ). ومن هناك انطلق الفنان الكبير إلى عالم الفن.
بدأ جزولى العزف على آلة العود عزفاً سماعياً. ثم صقل موهبته بالدراسة وتعلم اصول قراءة النوتة الموسيقية والعزف على مقام السلم الموسيقى السباعى أو الشرقى فى معهد الموسيقى العربية قسم الدراسات الحرة،
وتعلم الســــــــــلم الموسيقى الخماسى- الذى تقوم عليه كل مقامات الغناء النوبى والسودانى معاً- على يد الفنان السودانى الراحل صالح الضّي فاجاد فن العزف على آلة العود مثلما برع فى العزف على آلة الطنبور فى ليالى القرية واجاد الرسم بالكلمات فهو فنان مسكون بالتراث النوبى .
عشق الفنان حسن جزولى العود فاهتز الوتر نشواناً لأنغامه وسكن العود فى حنايات قلبه فتبادلا حباً بحب حتى طربت الأوتار من عزفه ولم يتخل عنه العود حتى اصبح رفيقاً له وسلواه حتى ايامه الأخيرة.
امتاز الفنان الراحل جزولى بطاقتة المتوهجة بالفن وبقدرته على العطاء باختيار الالحان البسيطة دون تعقيد. وقد كان لذلك اثره فى توصيل ألحانه إلى قدر كبير من الناس ورسوخها فى وجدان مستمعية فى زمن وجيز فلحن وكتب له كبار ملحنى النوبة أمثال الأستاذ عبده مرغنى والراحل شعبان عوض والراحل محى الدين شريف ونور الدين توشكاوى وفيما بعد كلا من زيدان عبده وعبد العزيز زين العابدين والفنان الراحل صلاح عبد الكريم رحمه الله .
وعندما بدأ حسن جزولى مشواره الفنى بأغنياتة العذبة كان ذلكَ مؤشراً لمرحلة وردية وجدانية مختلفة وزاهية تفاعل معها معجبوه فكانوا يجدون فى أغنياتة متنفساً وترجمة حقيقية لما كان يعتمل فى نفوسهم من مشاعر عاطفية فياضة لذا وجدت أغنياته قبولاً وصادقت هوى فى نفوس العشاق والحالمين بالحب وجاءت لتنفث ذوباً من السحر المستساغ المباح وحناناً فى نفوس جمهوره الوفى فعرف هو كيف ومتى يعزف على أوتار المشاعر.
كان الفنان الراحل حسن جزولى هو أول من أدخل اللزمات الصوتية فى الغناء النوبى وهذا كى يزن القالب الشعرى والموسيقى فى كلمات اغنياتة، كما وكان هو اول من مزج السلم الموسيقى الخماسى مع السلم الموسيقى السباعى فى بعض اعماله ، فبرغم فطرته وبساطته هو قد حظى بقدرات اكاديمية عالية.
وبعد كفاح متواصل تقدم الفنان حسن جزولي، بخطى الواثق، الى الاذاعة حيث نجح فى اختبارات لجنة الاصوات بالاذاعة وتم اعتماده فى الإذاعة كمطرب فهو قد تميز بطبقة صوتية عالية وبقدرةٍ على اداء درجات حادة جدا مما يشير إلى المساحة الكبيرة التى يملأها صوته. بعد ذلك النجاح بدأ جزولى اول خطواتة نحو الانطلاق الاوسع والرحب فى عالم الفن بخطى ثابتة فشارك فى العديد من البرامج الإذاعية مثل اذاعة صوت العرب، كما شارك فى تقديم المقدمات الغنائية لبعض المسلسلات التى تحكى عن قصص النوبة القديمة وعن عاداتها وتقاليدها ومأساة الهجرة مع الفنان محمد الادندانى والفنان الراحل محمد حمام. وقد اشتهر الفنان الراحل حسن جزولى، على الأخص، فى برنامج "من وحى الجنوب" فى إذاعة ركن السودان الذى كان يعده الاذاعى الكبير الراحل عبد الفتاح والى والذى كان يذاع كل يوم سبت فى الساعة الخامسة مساءاً، كما وعمل فى كثير من الأعمال الفنية مع الاذاعى والكاتب الكبير الراحل محمود الشوربجى الذى اسند واضاف الى الفنان الراحل حسن جزولى الكثير من الاعمال الاذاعية .
انطلق الفنان الراحل المقيم الذكر حسن جزولى، عبر أعماله الفنية فحقق شهرة واسعة على امتداد مصر كلها وشارك فى العديد من المناسبات القومية، كما وشارك بالغناء فى أول احتفالات مصر بنصر اكتوبر المجيد ونال جائزة الدولة التقديرية عن اغنية مشتركة مع الفنانة ماجدة على باسم ( من الميدان باعت رسالة للوطن) ثم غنى لسيناء الغالية بعد استراجعها بالكامل الى الوطن الام مصر . وشارك بالغناء كذلك، فى اول احتفال لمحافظة أسوان بعيدها القومى فى قاعة سينما الصداقة بأسوان وبحضور الرئيس الراحل أنور السادات وفى العديد من الحفلات خارج الوطن فغنى فى السودان الشقيق واحيا فيها العديد من الحفلات وكانت اشهرها حفلة على المسرح القومى بأم درمان وحفلة بمسرح قاعة الصداقة فى مدينة الخرطوم. كانت للسودان مكانة خاصة فى قلب الفنان الراحل حسن جزولى فارتبط به ارتباطاً وثيقاً من خلال استاذه الفنان الراحل ابراهيم عوض الذى تأثر به تاثيرا شديدا وكان يعتبره مثله الاعلى وقد قال الفنان الراحل ابراهيم عوض في ذلك أن حسن جزولى كان (صدىً لصوته) فى مصر والنوبة، وفي القاهرة فى احدى الحفلات وعلى قاعة مسرح البالون، اشترك الفنانان ابراهيم عوض وحسن جزولى فى غناء مشترك لأغنية ( أبيت الناس ) للفنان الراحل ابراهيم عوض وتقاسما كلاهما الاداء فغنى الفنان ابراهيم عوض مقطعاً باللغة العربية وغنى جزولى ذات المقطع باللغة النوبية..
كان الفنان الراحل ابراهيم عوض يطرب حينما يسمع
اغنياته بصوت حسن جزولى مثل (مين قساك) (والدنيا منى واحلام) (ويازمن ) وكانت هذه الاغانى من اشهر اعمال الفنان ابراهيم عوض في زمان الفن الجميل. وكانت للفنان الراحل حسن جزولى صداقات حميمة ومميزة مع الفنان العملاق محمد وردى والفنان حمد الريح والفنان الراحل صالح ولولية والفنان الراحل صالح الضئ والفنان السر قدور والفنان صلاح مصطفى والفنان الراحل زكى عبد الكريم وقد جمعته بأولئك صلات عميقة وفنية ورائعة وكان لكلٍّ منها الأثر الواضح فى مسيرة جزولى الفنية. كانت لحسن جزولي،كذلك، علاقات وطيدة داخل الوسط الفنى القاهرى مع الفنان الراحل عبد العزيز محمود والفنان الراحل شفيق جلال والفنان ماهر العطار والفنانة شريفة فاضل والفنانة شريفة ماهر والفنان الشاعر الراحل عبد الرحيم منصور والموسيقار الفنان عمار الشريعى اطال الله بقاءه، وكذلك ارتبط الفنان الراحل حسن جزولى بزملائه فى الوسط الفنى النوبى ارتباطاً مثالياً تميز، بمعنى الكلمة، بكل الود والحب والاخاء. لقد كان ذلك الجيل الرائع من الفنانيين،حقاً، صاحب رسالة فنية عظيمة فما وصل الية الفن النوبى من تقدم كان بفضلهم. كان حسن جزولى بمثابة مرجع لغوى هام لزملائه الفنانيين النوبيين فكانوا يعرضون علية كلمات اغانيهم الجديدة قبل اختيارهم لها كى يصحح لهم الكلمات وذلك بما عرف به الراحل جزولى من حرصٍ شديدٍ على سلامة أسس وقواعد اللغة النوبية. هكذا كان الفن وكان الفنانيين.
إنّ الفنان الراحل مقيم الذكـــــر حسن جـــــزولى كان بمثابة جامعـــــة فنية عريقة وكان بيته - رحمه الله- عبارة عن استديو فنى إذ كان ينشر اوراقه حوله، يقرأ ويسمع ويحفظ ويجري تدربيات وبروفات ويتابع ويصحح ويترجم كل الكلمات التى تصله من المؤلفين الذين يكتبوا له كلمات اغانيهم باللغة العربية فيحولها الى اللغة النوبية، كما وكان حريصاً على تبنى المواهب الواعده الجديدة وأخذ على عاتقه مسئولية متابعتهم وتوجيهه وارشادهم الى الطريق الفنى الصحيح والسليم فالفن عنده كان رسالةً أحبها وفني فيها وبذل فى سبيلها الكثير والكثير.
إن الفنان الراحل حسن جزولى هو أول من قدم العمل الغنائى الثنائى النسائى وكان ذلك يعتبر ثورة تجديد للاغنية النوبية المشتركة أو المعروفة بأسم الدويتو فى مجال الفن. ولعدم وجود العنصر النسائى الغنائى فى المجتمع النوبى- حيث أن التقاليد النوبية منعت ظهور المغنيات النوبيات وحرمته بشكل قاطع- أتى الفنان الراحل حسن جزولى بالفنانة ماجدة على وسحر وسونيا وزينب- وكلهنّ من خارج المجتمع النوبى- وقام بتعليمهن وتدريبهن فشاركن معه فى كثير من الاعمال الفنية، خاصة الفنانة ماجدة على- فى اوبريت ملحمة اكتوبر وغيره من الاعمال الفنية الجميلة. شاركت أولئك المطربات الفنان الراحل جزولى الغناء باللغة النوبية رغم عدم معرفتهن بها، لكنهن ثابرن وتعلمن من أجل الفن النوبى وايماناً منهنّ برسالة الفنان حسن جزولى، رحمه الله.
كان للفنان الراحل حسن جزولى معجبين من خارج المجتمع النوبى كما ومعجبين من نوع أخر عبروا عن اعجابهم بغناء اغانى جزولى من فوق خشبة المسرح، ومن أولئك الاستاذ الراحل شيبة- الذي لقب بهذا الاسم لبياض شعر راسه- والأستاذ حكيم، اطال الله فى عمره وهما قاهرى النشأة لكنّهما احبّا الفن النوبى من خلال الفنان حسن جزولى واشتهرا كلاهما بتقليده بالغناء باللغة النوبية رغم عدم المامهما بها لكنهما حفظا أغنياتها تلكَ ببراعة وعن ظهر قلب خاصة الاستاذ حكيم، ثم كانت لهما صولات وشهرة واسعة وعرفهم المجتمع النوبى من خلال الفرقة الموسيقية بقيادة الفنان الراحل على كوبان.
أقام الفنان الراحل حسن جزولى عدة حفلات فى دولة الكويت والمملكة العربية السعودية اثناء فترة عمله بهما. وفى ليالى الاغتراب تلكَ، وعندما يعز البكاء من شده الشوق والحنين، كان هو يرحل بأفئدة النوبيين المهاجرين إلى حيث الدفء والحنان، إلى أنين السواقى وظلال النخيل.
شارك الفنان حسن جزولي، كذلك، فى احتفالات بفرنسا، بدعوة من هيئة اليونسكو، مع العملاق الراحل الفنان حمزة علاء الدين ونال العديد من الاوسمة وشهادات التقدير من الخارج كما وحصل على شهادة الدولة التقديرية للفنون فى عهد كلا من الأستاذ عبد المنعم الصاوى والدكتور عبد القادر حاتم، وزيري الإعلام والثقافة حينذاك والدكتور عبد الحميد حسن، وزير الشباب والرياضة سابقاً، كما نال العديد من شهادات التقدير والتكريم باسم محافظة أسوان من كلا من السيدين صلاح مصباح ومحمد طه، وهما محافظين سابقين لأسوان
قدم الراحل حسن جزولي العديد من الأعمال الفنية المتميزة ونجح في أن تكون له قاعدة جماهيرية عريضة وكانت منها الأغنيات العاطفية والوصفية والوطنية والاجتماعية الذى تنادى بصونِ اخلاقيات ومبادئ اهل النوبة كانت من أشهرها الأغنيات التالية:- عديله ، نصيحة ، الأخ ، ألام ،النوبة ، ظلال النخيل، دوب الليل آه من الحب، حديث العيون ، حدوته ، ولد وبنت ، صفاء ، أمانة يا شمس و سمراء. قدم حسن الجزولي، كذلك،العديد من الأغانى باللغة العربية مثل أغنية فين ايامك والغزال الأسمرانى ،الشعر السايل ،حبيب الروح وغيرها.
شارك الفنان الراحل حسن جزولى بالغناء مع جميع الفرق الموسيقة النوبية الموجودة فى القاهرة والاسكندرية والسويس وأسوان وكان- رحمه الله- لم يكن يحب أو يحبذ فكرة الاحتكار الفنى ومن اقوالة المأثورة - رحمه الله:- ( أنا فنان نوبى لكل النوبيين)
كان حسن جزولى - رحمه الله - إنسانا صدوقا وفناناً معطاءاً كريماً تعامل مع الجميع بشفافية ففي كل تاريخه الطويل لم يخلع هو أو ينزع عنه رداء التواضع إذ عرف، في الحياة العامة، بالبشاشة واللطف والظرف ولين الجانب مع اصدقائه وعامة الناس.
لم يبخل الفنان الراحل حسن جزولى بالعطاء الفنى لمحبيه حتى وهو فى اشد حالته المرضية، ففى أحد الأيام طلب منه أحد معجيبه فى منطقة جبل تقوق باسوان أن يحيى له ليلة عرسه، ورغم انه كان من الصعب عليه ان يتحرك من فراشة، كما كان من المحال أن يصعد على خشبة المسرح، لم يرفض حسن جزولي أو يعتذر لذاك الإنسان بل لبى طلبه ولم يخيب له رجاءه فأقام العريس حفل زواجه تحت منزل الفنان الراحل حسن جزولى وأحيا حسن جزولى له الحفل من خلال شرفة بيته بعد ان تم توصيل المايك اليه فى الشرفة وغنى الفنان الراحل والمعطاء رغم مرضه الشديد فاسعد جماهيره التى تمايلت طربا ونغماً فيما كان هو يعتصر من الألم الكثير، فأى عطاءٍ بعدَ هذا؟!
إنّ الفنان حسن عثمان جزولى هو ظاهرة إبداعية
كونية
فقد غنى من القلب إلى القلب ومن الروح إلى الروح ، فصوته قد شبع بأحاسيس المعانى التى تغنى بها، مع أصالة مكتملة فى الاداء وصدق فى التعبير، لذا هو روح الغناء النوبى وقامة فنية شامخة فى سماء الفن النوبى. إنه فنان غنى فأبدع، شدا بصوته العذب فوصل إلى قلوب الجميع، فنّانٌ له أغنيات خالدة فى وجدان محبيه وجمهوره ولهذا هو روح الغناء النوبى. غنى الفنان الراحل حسن جزولى باللغة الكنزية وباللغة الفاديجا وباللغة العربية العامية وترك، بعد رحيله، فراغاً فى الوسط الغنائى النوبى فهو يعد من افضل مطربى النوبة .
كان الفنان الراحل حسن جزولى صاحب حنجرة ذهبية وصوتاً شجيّاً اما انتقاءه للكلمة فكان فيه مدرسة فكرية عميقة قائمة بذاتها خرّجت اكثر الاغنيات شهرةً وبقاءاً وخلوداً وتغلغلاً فى نفوس محبيه فهو ظل ينظر للفن كرسالة انسانية وقيمة حضارية دون أن يهمش مساحة الفرح والامل التى احتفت بها اغنياته. لذا كان هو يرى أن اختيار الاغنية ليس مسألة سهلة فهو يعكس فكر الفنان وكيفية تعامله مع الارث الغنائى ويستلزم من الفنان أن يكون حذراً، خاصةً وأنّ اللغة النوبية لغة ثرية ولها موروث ضخم من الأغانى والألحان والايقاعات، هذا إضافة الى أحاسيس ومشاعر الفنان وسلاسة لحن الأداء. كان الراحل حسن جزولي بسبب كلّ ذلك، يؤمن بضرورة مراعاة البعد الانسانى فى الفن فالفن عنده نابع مـــن طقوس بنية المجتمـــــع وثقافته وكانت له - رحمـــــه الله - مقولةٌ في ذلك:- ( ماقيمة الفن اذا لم يناقش قضايا الناس والمجتمع ). كان حسن جزولي تمشياً مع ذلك يبحث عن صيغة جديدة للاغنية النوبية تختلف كلماتها عن الحب والهجر والغدر ويحرص، باهتمامٍ بالغٍ، على شكل وقالب فن الغناء النوبى، مع مواكبةً ومجاراةً لروح العصر، لكن ضمن مساحة تحفظ للاغنية هويتها وطابعها المميز. تلك كانت هي معادلته الصعبة ومنها جاءت مطالبته بالحد من ظاهرة ( المؤدى ) الذى يقف من وراء آلة الاورج ويغنى لوحده فوق الثلاثين اغنية فى سهرة واحدة فهو- رحمه الله- كان يرى ان تلك الظاهرة أتت إلى الساحة النوبية نتاجاً لرحيل جيل العباقرة وتقاعس فنانين "الاراجيد" وتباعد الشاعر والفنان عبده مرغنى عن الابداع الفنى ومشكلة قلة الشعراء وكتاب الاغانى النوبية. وكان يقول عن ظاهرة مغنيّي الاورج إنها مثل فقاعات الماء وإنها سرعان ماتتلاشى وينساها الناس لانها اخلت بكل العناصر الهامة فى فن الغناء النوبى عند أولئك المغنين اصحاب آلة الاورج، يقول الراحل حسن جزولي لايمكن ان يُسمع او يُحس ان هناك فن نوبى، وعلى حد فهمه، يضيف حسن جزولي، هو لا يفهم أعمال أولئكَ وماذا يغنون فمشكلتهم هي أنهم يريدون المجد والشهرة والكسب السريع وأنهم نتاج لعدم تعليم التراث والفن النوبى السليم مما يؤدي، فى النهاية، إلى ركاكة فنية مع ذلك، يؤكد الراحل حسن جزولي، سيبقى، فى النهايةِ الغناء الجميل والأصيل.
كان الراحل حسن جزولي يرى أنه حتى الجيد من ذلك الغناء يقوم معظمه على اعادة التجارب الغنائية السابقة ضمن تنوعات موسيقية جديدة رغم أنه كان من الاجدى ان يقدم أولئك الشباب تجاربهم الخاصة التى تعكس مواهبهم وقدارتهم بدلا من الاتكاء على اغنيــــــــات من سبقوهم. وكان - رحمه الله - دائم القول إنه - ومعاصريه - قد أصبحوا فنانين ممتازين لأنهم وجدوا أساتذةَ يعلمونهم، أما اليوم فمن هو أستاذ الفن النوبى الذى سيعلم المواهب الجديدة ؟
كانت للفنان الراحل، حسن جزولى، قضايا فنية هامة منها مسألة انتشار الاغنية النوبية خارج حدود الافراح التى تعتبر المنفذ الوحيد لها، خاصّةً بعد انحسار الحفلات العامة مثل حفلة أضواء المدينة وحفلات النوادى النوبية العامة فى كلا من القاهرة والاسكندرية والسويس. عليه هو، رحمه الله، كان يرى أن المشكلة تكمن فى تهميش الاعلام للفن النوبى رغم قدرته على وضع الاغنية النوبية فى إلاطار المناسب الذى يجعلها اكثر قبولا وتواصلا مع الأخرين وأنّه ربما أسهم وجود القناة الثامنة فى محافظة أسوان فى التعريف بها فقط، لكن منفذاً واحداً لا يخدم الغرض المنشود.
فى يوم الثلاثاء الموافق 10 اغسطس
لعام 2004 فاضت روح الفنان العملاق حسن جزولى إلى بارئها بعد معاناة مع المرض الذى ألزمه الفراش ، فسكت، في ذلك اليوم، المغنى وبكى العود وناحت الكمنجات وارتدى الفن النوبى السواد.
قد رحلت، يا أيها الفنان، لكنك طويت المسافة بين منطقة جبل تقوق وقورتة وعدت محمولاً على الاعناق داخل صندوق خشــــــــبى وزرت بيت الصّبــــا و الذكريات لترقد تحت الثرى.
نعم قد ودّعنا حسن جزولى، آخرُ فنانٍ من جيل العمالقة، ليلحق بالفنانين عبد الله باطا ومحى الدين شريف وبشير عباس وشعبان عوض وحسين جاسر وأحمد منيب وسليم شعراوى وسيد جاير وغيرهم ممن رحلوا عنّا بأجسادهم ولكن بقيت أعمالهم وأصواتهم تترد فى كل بيت نوبى يعشق الطرب الأصيل .
إنّ رحيل الفنان حسن جزولي قد جعل فى القلب لوعه وفى العين دمعة لكن أعماله ستبقى ناقوسا يدق فى وادى النسيان، وإذا كان جسده توارى فستبقى أعماله فى ديار الأجيال تذكارا. إن الفنان حسن جزولى هو الصيدح الفريد الذى سقى وجدان النوبيين من فيوض زلال سقياه القراح ومن سلسبيل تدفقه روى كل الأحاسيس .
وعصره عصرٌ لن تغرب شمسه إن شاء الله، لذا دعنا نُحيي أيّامه ولياليه بالأغنيات ونفرح به، ساعةً فساعةْ.
وداعاً حسن جزولى ، فقد كنتَ فناناً محبوباً نسجت له الطبيعة ثوباً من خيوط الحب ارتداه كل نوبى، بل وكل من عرفه، فقد كان إنساناً قبل أن يكون فناناً فقدته النوبة. لا يزال رنين صوتك الشجى- يا حسن - يطوف على وجدان كل من أحبوك ويُشجي مشاعر الناس فى كل شبر ويطرب وجدان كل من استمعوا له فى اطراف الكون... ليرحمك الله بقدر ما قدمت ومنحت وأشجيت وأسعدت. قد رحلت- ايها الفنان- ولكنك ذهبت عظيماً كما أتيت عظيماً وذهبت منتصب القامة مرفوع الرأس رغم الداء.
إنّ الكلامَ عن الفنّانِ الراحل حسن جزولى لكثيرٌ ومتشعبُ لا يتوقف ولا ينتهى فأمثال حسن جزولى يحفرون الخلود فى ذاكرة أمة بأسرها ومن يحفر خلوده فى ذاكرة أمته لا خوف عليه من النسيان. إنه لم تبق فى قواميس اللغةِ مفردةٌ فى الحب والثناء والنقاء إلا وقيلت أوكان لها أن تُقال- فى حقِّ الراحل المقيم الذكرالفنان حسن جزولى حين كان حيا بيننا، ثمّ لم تبق كلمة رثاء إلا وذكرت فيه بعد أن غاب عنا. دعنا- إذاً- نضع باقة زهور على قبر الفنان الراحل حسن جزولى .